حُكم من يَنسِبُ لله مكانًا

غاية البيان في تنزيه الله عن الجهة والمكان

الباب السابع
بيان حُكم من يَنسِبُ لله مكانًا

ننقل في هذا الفصل بعون الله تعالى عن العلماء حكم من يعتقد أن الله يسكن السماء أو يتحيَّز فوق العرش أو في غير ذلك من الأماكن.
1 - فقد كفّر الإمام المجتهد أبو حنيفة (150هجري) رضي الله عنه من ينسب المكان لله تعالى، فقال في كتابه "الفقه الأبسط" ما نصه1: "من قال لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض فقد كفر، وكذا من قال إنه على العرش، ولا أدري العرش أفي السماء أو في الأرض" انتهى.
2 - ووافقه على ذلك الشيخ العزّ بن عبد السلام (660هجري) في كتاب "حلّ الرموز"، فقال ما نصه: "لأن هذا القول يوهم أن للحق مكانًا، ومن توهم أن للحق مكانًا فهو مُشَبِّه" انتهى.
3 - وارتضاه الشيخ ملّا علي القاري الحنفي وقال ما نصه2: "ولا شك أن ابن عبد السلام من أجلّ العلماء وأوثقهم، فيجب الاعتماد على نقله" انتهى.
4 - وقال الإمام الحافظ الفقيه الحنفي أبو جعفر الطحاوي السَّلَفي (321هجري) ما نصه: "ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر" انتهى.
5 - قال أبو القاسم القشيري (465هجري) في رسالته ما نصه3: "سمعتُ الإمام أبا بكر ابن فورك رحمه الله تعالى يقول: سمعتُ أبا عثمان المغربي يقول: كنتُ أعتقدُ شيئًا من حديث الجهة، فلما قدِمتُ بغداد زال ذلك عن قلبي فكتبتُ إلى أصحابنا بمكة: إني أسلمتُ الآن إسلامًا جديدًا" انتهى.
6 - وقال الشيخ لسان المتكلمين أبو المعين ميمون بن محمد النسفي الحنفي (508هجري) ما نصه4: "والله تعالى نفى المماثلة بين ذاته وبين غيره من الأشياء، فيكون القول بإثبات المكان له ردًّا لهذا النص المحكم - أي قوله تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء (11)﴾- الذي لا احتمال فيه لوَجْهٍ ما سوى ظاهره، ورادُّ النص كافر، عصمنا الله عن ذلك" انتهى.
7 - وقال الشيخ زين الدين الشهير بابن نُجَيْم الحنفي (970هجري) ما نصه5: "ويكفر بإثبات المكان لله تعالى، فإن قال: الله في السماء، فإن قصد حكاية ما جاء في ظاهر الأخبار لا يكفر، وإن أراد المكان كفر" انتهى.
8 - وقال الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد المصري الشافعي الأشعري المعروف بابن حجر الهيتمي (974هجري) ما نصه6: "واعلم أن القَرَافي وغيره حكوا عن الشافعي ومالك وأحمد وأبي حنيفة رضي الله عنهم القول بكفر القائلين بالجهة والتجسيم، وهم حقيقون بذلك" انتهى.
9 - وقال الشيخ ملّا علي القاري الحنفي (1014هجري) ما نصه7: "فمن أظلم ممن كذب على الله أو ادعى ادعاءً معينًا مشتملًا على إثبات المكان والهيئة والجهة من مقابلة وثبوت مسافة وأمثال تلك الحالة، فيصير كافرًا لا محالة" انتهى. وقال8: "من اعتقد أن الله لا يعلم الأشياء قبل وقوعها فهو كافر وإن عُدّ قائله من أهل البدعة، وكذا من قال: بأنه سبحانه جسم وله مكان ويمرّ عليه زمان ونحو ذلك كافر، حيث لم تثبت له حقيقة الإيمان" انتهى.
10 - وقال أيضًا ما نصه9: "بل قال جمع منهم - أي من السلف - ومن الخلف إن معتقد الجهة كافر كما صرح به العراقي، وقال: إنه قول لأبي حنيفة ومالك والشافعي والأشعري والباقلاني" انتهى.
11 - وقال الشيخ العلامة كمال الدين البَياضي الحنفي (1098هجري) في شرح كلام الإمام أبي حنيفة ما نصه: "فقال - أي أبو حنيفة - (فمن قال: لا أعرف ربي أفي السماء أم في الأرض فهو كافر) لكونه قائلًا باختصاص البارىء بجهة وحيّز وكل ما هو مختص بالجهة والحيز فإنه محتاج محدَث بالضرورة، فهو قول بالنقص الصريح في حقه تعالى (كذا من قال إنه على العرش ولا أدري العرش أفي السماء أم في الأرض) لاستلزامه القول باختصاصه تعالى بالجهة والحيز والنقص الصريح في شأنه سيما في القول بالكون في الأرض ونفي العلوّ عنه تعالى بل نفي ذات الإلَه المنزه عن التحيز ومشابهة الأشياء. وفيه اشارات:
الأولى: أن القائل بالجسمية والجهة مُنكِر وجود موجود سوى الأشياء التي يمكن الإشارة إليها حسًّا، فمنهم منكرون لذات الإلَه المنزه عن ذلك، فلزمهم الكفر لا محالة. وإليه أشار بالحكم بالكفر.
الثانية: إكفار من أطلق التشبيه والتحيز، وإليه أشار بالحكم المذكور لمن أطلقه، واختاره الإمام الأشعري، فقال في النوادر: من اعتقد أن الله جسم فهو غير عارف بربه وإنه كافر به، كما في شرح الإرشاد لأبي قاسم الأنصاري" انتهى.
12 - قال الشيخ عبد الغني النابلسي الحنفي (1134هجري) ما نصه10: "وأما أقسام الكفر فهي بحسب الشرع ثلاثة أقسام ترجع جميع أنواع الكفر إليها، وهي: التشبيه، والتعطيل، والتكذيب... وأما التشبيه: فهو الاعتقاد بأن الله تعالى يشبه شيئًا من خلقه، كالذين يعتقدون أن الله تعالى جسمٌ فوق العرش، أو يعتقدون أن له يدَين بمعنى الجارحتين، وأن له الصورة الفلانية أو على الكيفية الفلانية، أو أنه نور يتصوره العقل، أو أنه في السماء، أو في جهة من الجهات الست، أو أنه في مكان من الأماكن، أو في جميع الأماكن، أو أنه ملأ السمَوات والأرض، أو أنَّ له الحلول في شىء من الأشياء، أو في جميع الأشياء، أو أنه متحد بشىء من الأشياء، أو في جميع الأشياء، أو أن الأشياء منحلَّةٌ منه، أو شيئًا منها. وجميع ذلك كفر صريح والعياذ بالله تعالى، وسببه الجهل بمعرفة الأمر على ما هو عليه" انتهى.
13 - وقال الشيخ محمد بن أحمد عليش المالكي (1299هجري) عند ذِكر ما يوقع في الكفر والعياذ بالله ما نصه11: "وكاعتقاد جسمية الله وتحيّزه، فإنه يستلزم حدوثه واحتياجه لمحدِث" انتهى.
14 - وذكر هذا الحكم أيضًا الشيخ العلامة المحدث الفقيه أبو المحاسن محمد القاوقجي الطرابلسي اللبناني الحنفي (1305هجري) في كتابه "الاعتماد في الاعتقاد"12، فقد قال: "ومن قال لا أعرِفُ الله في السماء هو أم في الأرض كفَر - لأنه جعل أحدُهما له مكانًا - " انتهى.
15 - وفي كتاب "الفتاوى الهندية" لجماعة من علماء الهند13 ما نصه: "يكفر بإثبات المكان لله تعالى. ولو قال: الله تعالى في السماء فإن قصد به حكاية ما جاء فيه ظاهر الأخبار لا يكفر وإن أراد به المكان يكفر" انتهى.
16 - قال الشيخ محمود بن محمد بن أحمد خطاب السبكي المصري (1352هجري) ما نصه14: "سألني بعض الراغبين في معرفة عقائد الدين والوقوف على مذهب السلف والخلف في المتشابه من الآيات والأحاديث بما نصه: ما قول السادة العلماء حفظهم الله تعالى فيمن يعتقد أن الله عز وجل له جهة وأنه جالس على العرش في مكان مخصوص ويقول ذلك هو عقيدة السلف ويحمل الناس على أن يعتقدوا هذا الاعتقاد، ويقول لهم: من لم يعتقد ذلك يكون كافرًا مستدلا بقوله تعالى:﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (5)، وقوله عز وجل: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ (16) [سورة الملك]، أهذا الاعتقاد صحيح أم باطل؟ وعلى كونه باطلًا أيكفر ذلك القائل باعتقاده المذكور ويبطل كل عمله من صلاة وصيام وغير ذلك من الأعمال الدينية وتبين منه زوجه، وإن مات على هذه الحالة قبل أن يتوب لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، وهل من صدّقه في ذلك الاعتقاد يكون كافرًا مثله؟ فأجبت بعون الله تعالى، فقلت: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الهادي إلى الصواب، والصلاة والسلام على من أوتي الحكمة وفصل الخطاب، وعلى ءاله وأصحابه الذين هداهم الله ورزقهم التوفيق والسداد. أما بعد: فالحكم أن هذا الاعتقاد باطل ومعتقده كافر بإجماع من يعتد به من علماء المسلمين، والدليل العقلي على ذلك قِدَم الله تعالى ومخالفته للحوادث، والنقلي قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (11) ، فكل من اعتقد أنه تعالى حلّ في مكان أو اتصل به أو بشىء من الحوادث كالعرش أو الكرسي أو السماء أو الأرض أو غير ذلك فهو كافر قطعًا، ويبطل جميع عمله من صلاة وصيام وحج وغير ذلك، وتبين منه زوجه، ووجب عليه أن يتوب فورًا، وإذا مات على هذا الاعتقاد والعياذ بالله تعالى لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ومثله في ذلك كله من صدَّقه في اعتقاده أعاذنا الله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. وأما حمله الناس على أن يعتقدوا هذا الاعتقاد المكفر، وقوله لهم: من لم يعتقد ذلك يكون كافرًا، فهو كفر وبهتان عظيم" انتهى.
17 - قال الشيخ الكوثري وكيل المشيخة الإسلامية في دار الخلافة العثمانية (1371هجري) ما نصه15: "إن القول بإثبات الجهة له تعالى كفر عند الأئمة الأربعة هداة الأمة كما نَقل عنهم العراقي على ما في "شرح المشكاة" لعلي القاري" انتهى.
18 - وقال العلامة الشيخ المحدث الفقيه عبد الله الهرري المعروف بالحبشي حفظه الله ما نصه16: "وحكم من يقول: (إنّ الله تعالى في كل مكان أو في جميع الأماكن) التكفير إذا كان يفهم من هذه العبارة أنَّ الله بذاته منبثٌّ أو حالٌّ في الأماكن، أما إذا كان يفهم من هذه العبارة أنه تعالى مسيطر على كل شىءٍ وعالمٌ بكل شىء فلا يكفر. وهذا قصدُ كثير ممن يلهج بهاتين الكلمتين، ويجب النهي عنهما في كل حال" انتهى.
19 - وقال أيضًا17: "ويكفر من يعتقد التحيُّز لله تعالى، أو يعتقد أن الله شىءٌ كالهواء أو كالنور يملأ مكانًا أو غرفة أو مسجدًا، ونسمّي المساجد بيوت الله لا لأن الله يسكنها بل لأنها أماكن يُعْبَدُ الله فيها.
وكذلك يكفر من يقول ( الله يسكن قلوب أوليائه) إن كان يفهم الحلولَ. وليس المقصود بالمعراج وصول الرسول إلى مكان ينتهي وجود الله تعالى إليه ويكفر من اعتقد ذلك، إنما القصدُ من المعراج هو تشريف الرسول صلى الله عليه وسلم باطلاعه على عجائب في العالم العلويّ، وتعظيمُ مكانته ورؤيتُه للذات المقدس بفؤاده من غير أن يكون الذات في مكانٍ" انتهى.


---------------------
1- الفقه الأبسط، ضمن مجموعة رسائل أبي حنيفة بتحقيق الكوثري (ص/ 12).
2- نقله ملاّ علي القاري في شرح الفقه الأكبر بعد أن انتهى من شرح رسالة الفقه الآكبر (ص/ 198).
3- الرسالة القشيرية (ص/ 5).
4- تبصرة الآدلة (1/ 169).
5- البحر الرائق: باب أحكام المرتدين (5/ 129).
6- المنهاج القويم (ص/ 224).
7- شرح الفقه الأكبر بعد أن انتهى من شرح الرسالة (ص/ 215).
8- المصدر السابق (ص/ 271 – 272).
9- إشارات المرام (ص/ 200).
10- الفتح الرباني والفيض الرحماني (ص/ 124).
11- منح الجليل شرح مختصر خليل (9/ 206).
12- الاعتماد في الاعتقاد (ص/ 5).
13- الفتاوى العالمكيرية وهي الفتاوى الهندية (2/ 259).
14- إتحاف الكائنات (ص/ 3 – 4).
15- مقالا ت الكوثري (ص/ 321).
16- الصراط المستقيم: (ص/ 26).
17- الصراط المستقيم: (ص/ 26).